رسالة إلى الأسرى الأحرار
إلى الأسرى البواسل المحررين، وإلى الذين ما زالوا ينتظرون في سجون الاحتلال الصهيوني ومعتقلاته، رجالاً ونساءً، وفتية وفتيات...
إلى أبطال "نفق الحرية": محمد قاسم عارضة، محمود عبد الله عارضة، يعقوب محمود قادري، أيهم فؤاد كممجي، مناضل يعقوب انفيعات، زكريا محمد الزبيدي. وإلى شركائهم الأبطال الذين لم يتمكنوا من تنسم عبير الحرية وقتها.
أرسل إليكم من القلب سلامًا يتبعه سلام، وتبجيلاً يتلوه تبجيل، وعبيرًا يعطره عبير، وأزهارًا تعبق بالياسمين...
وأتوجه إليكم بتحية العزة والإباء والإجلال، ونحن في هذه الأيام المباركة التي يتنسم فيها عدد كبير من أسرانا الأبطال نسيم الحرية العليل، وقد أشرقت شمسها بشموخ هاماتكم، وصلابة عزيمتكم، ورسوخ إيمانكم، وجميل صبركم، وازدانت سماؤها بكواكب درّيّة من قوافل الشهداء الذين ارتقوا على طريق القدس وفلسطين، وفاح في أجوائها أريج من عبق دماء الشهداء والجرحى الزاكية التي روت أشجار الصبار والصنوبر واللوز والبرتقال والتين والزيتون... في فلسطين، كما روت أشجار الكرامة والشهامة والشرف والجود والرجولة والعنفوان... في العالم، وعلت فيها أصوات التحدي والفخر والاعتزاز من حناجر الأطفال والنساء والشيوخ الذين خرجوا من بين الأنقاض والدمار، ممهورة بعبارات الرضى والاحتساب والحمد والشكر لله، ممزوجة بغصة الحزن والألم لفقد الأحبة وخسارة الممتلكات...
مشاهد لن تنسى
إنها أيام مشهودة، ستبقى محفورة في سجل التاريخ المجيد وذاكرة الأجيال الحية، ولن يستطيع أحد أن يمحو المشاهد التي رآها العالم بأسره، وهو يتابع حرب الإبادة الجماعية وحرب الحصار والتجويع، ونتائجها الفاضحة للأعداء المشرفة لأمتنا، وينظر بعين مجردة إلى مهانة الأعداء وآثار الصدمة البادية على وجوههم الباسرة، بعدما رأوا عظمة شعبنا وبطولات مقاومته، وإلى طوفان شعبنا الهادر، وهو يعود إلى شمال غزة بشوق وشغف، رغم تكالب الأعداء وتآمرهم، مؤكدًا على أصالته وتجذره في أرضه، وتمسكه بمبادئه وثوابته ومشروعه النضالي في مقاومة الأعداء حتى تحرير الأسرى والمقدسات، واستعادة كامل تراب فلسطين وحقوقنا المسلوبة.
ولا بد للقيد أن ينكسر
يا من كنتم تسعون لكسر قيودكم، وتتوقون للحرية ومعانقة آبائكم وأمهاتكم وذويكم... ها هو الليل قد انجلى والقيد قد انكسر، وها هي الحرية قد أتتكم بلونها الأحمر القاني، بعد أن فتحت أبوابها أيدٍ مضرجة بالدماء.
فطوبى لكل من رسم لوحة النصر والحرية على أرض غزة، بصموده الأسطوري، ولوّنها بدمه النازف، رغم أنف المعتدين.
وطوبى لكتائب المقاومة في الضفة الباسلة، وعلى رأسها كتيبة جنين التي ارتبط اسمها بأبطال "نفق الحرية"، أبناء مخيم جنين أيقونة المقاومة وحصنها المنيع.
يا من انتزعتم حريتكم، في السادس من أيلول عام 2021، بأظفاركم وأشفار عيونكم، وبصيرة قلوبكم، ورجاحة عقولكم، ونباهة فكركم، ومعول إرادتكم، فعانقتم شمس الحرية وهي تنسج بخيوطها الذهبية وشاح العزة والإباء، وتنسمتم عبير فلسطين وأزهار البرتقال، وتذوقتم طعم الحرية مع ثمار الصبار، وأنتم تتنقلون بين بساتينها وحقولها وروابيها، وتدوّنون في سجل تاريخنا المشرف إنجازًا مميزًا لا نظير له، وتنالون براءة اختراع غير مسبوق، وتصيبون العدو الصهيوني بصدمة صاعقة، وتوجهون لمنظومته الأمنية ضربة قاسية.
لقد وصلت رسالتكم إلى كل العالم، وصدى بطولاتكم ما زال يتردد في أرجاء المعمورة، وحكايتكم أصبحت على كل لسان، وقصتكم تحولت إلى أنموذج يحتذى، وغرسكم الذي زرعتموه قد أينعت ثماره سريعًا، فتشكلت كتائب الجهاد في جنين، ونابلس، وطولكرم، وطوباس... لتتصدى لقوات الاحتلال وجنوده.
وقد استطعتم أن تقدموا منهاجًا فريدًا يُدرّس في مدرسة الجهاد والمقاومة، حيث تفوقتم على عدوكم، وعطلتم مفاعيل أجهزته الأمنية وتحصيناته العسكرية وإجراءاته البوليسية... ولن ينسى العدو هذه العملية الإبداعية النوعية وتداعياتها على كيانه، ولن يستطيع أن يمحو آثارها مهما فعل.
أحرار رغم العزل والقيود
يا من عانقتم شمس الحرية مجددًا، وعانقتم الأهل والأحبة والمهنئين، ورفعتم شارة النصر. ويا من تنتظرون بفارغ الصبر دوركم في التحرر وكسر القيود... ويا من يسعى العدو لإبعادهم عن فلسطين الحبيبة... ويا من رفعتم لواء المقاومة، ولبيتم نداء الجهاد، ووقعتم في الأسر وأنتم في ميادين القتال وسوح الوغى.
لقد أثبتم بجدارة أنكم أحرار رغم القيود، وأنكم أحرار رغم العزل، وجعلتم السجن يضيق على السجان أكثر مما يضيق عليكم، واستطعتم تحويله إلى مدرسة تخرج الأبطال والمبدعين، وحولتم العزل إلى باحة من الحرية، تطوفون في أنحائها بفكركم الثاقب وعقلكم المستنير وخيالكم الرحب، وتنهلون من عالمكم ما لا يستطيع معرفته الكثيرون من الطلقاء.
ونحن على يقين بأن النصر آتٍ لا محالة، وأن تضحياتكم لن تذهب سدى، وأن الله تعالى لن يخذلكم، ولن يضيع أعمالكم، وأنكم ستخرجون عاجلاً أم آجلاً شامخي الهامات، وستبقون تاج فخر على رؤوسنا، ووشاح عزّ على صدورنا، وأن بطولاتكم وإبداعاتكم سوف تُعلّم للأجيال المتعاقبة على مدى الأزمان...
دروس بليغة وثقة مطلقة
لكل أسير فلسطيني قصص وروايات، ورسائل ومذكرات، ودروس وعبر، من حقه علينا أن نسهم في كتابتها ونشرها. ومن باب المثال لا الحصر، وفي سياق مضمون كلامي، وجدت من المناسب أن أتطرق إلى بعض ما ورد في رسالتي محمود ومحمد عارضة اللتين نشرتهما عائلتهما مطلع أيلول 2022، لأسلط الضوء على مستوى الرؤية العميقة، والوعي القيادي لديهما، مع تميزهما بالإرادة الصلبة، والقدرة الكبيرة على التحمل.
وهنا أذكر جزءًا مهمًّا مما جاء في رسالة القائد محمود عارضة، وهو يتحدث حول الإجراءات العقابية المفروضة على أبطال "نفق الحرية"، وظروف العزل الانفرادي القاسية داخل زنازين العدو، قائلاً: "نحن نسير على الجمر دون أن نخاف الحرق، قلوبنا تتألم لتحرير فلسطين، نطالب بالحرية وسنحصل عليها، رغم أنف العدو، عن قريب".
أما القائد محمد عارضة، فقد استوقفتني مجموعة من عباراته المهمة الواردة في رسالته وهو يتحدث حول الدروس المستفادة من تجربة العزل الصعبة، بعد عملية "نفق الحرية"، قائلاً: "الحقائق لا تدرك إلا بعد الصعاب والتجارب…
تجربة العزل تجربة شاقة، فأنت في التحام متواصل مع السجان وأعوانه، التحام نفسي وفكري وجسدي... لم يكن لي أن أدرك الشرّ على حقيقته، وأعرفه من دون تمييز، لولا هذه التجربة.
هذه التجربة علمتني الكثير من الحقائق، أرى فيها الكره، وأساليب القهر، والإهمال المقصود والمتعمد والمخطط له...".
إنهما يعلماننا الدروس وهما في زنازين العزل، ليس في الصبر والمقاومة والجهاد فحسب، بل في الحياة وفلسفتها، وفي إدراك الحقائق، وفي معرفة صنوف الناس وفهم النفس البشرية...
إن من يثق بأنه سينال الحرية قريبًا وهو في العزل، ومن لا تؤلمه ظروف العزل بقدر ما يتألم من أجل فلسطين ويتشوق لتحريرها... فإنه يثبت لشعبنا وأمتنا أن المقاومة بخير، وأن راية النصر والتحرير سوف ترفرف عاليًا فوق ربوع فلسطين، بلا أدنى شك.
عضو المكتب السياسي
لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين