هل دفعت دولة الإحتلال ثمنا لجرائمها وما أرتكبته في حق أهالي غزة ؟ هل من المعقول أن نصور "الهدنة" انتصارا بعد أكثر من عام وسقوط وإصابة ما يقترب أو يزيد عن ١٠٠ ألف وهو رقم تجاوز كل ضحايا المواجهات الإسرائيلية - العربية ؟ و إن سلمنا بصحة منطق البعض أن إسرائيل لم تنجح في تحقيق أهدافها التي حددتها من هذه الحرب إلا أنها نجحت في أن تجعل الهدنة أسمى أمانينا ومبتغى ما نصبو إليه لايقاف الألة الجهنمية للقتل.
أما نحن نحاول أن ننتهز اللحظة للتأكيد على الدور والحضور فالمقاومة صمدت .. والوسطاء هم أصحاب الفضل والكل يتبارى ليثبت أنه لعب الدور الأكبر وينسب لنفسه الفضل ، وتناسوا العدد الذي سقط وأصيب من جراء هذه الحرب وأنه لن يكون هناك ثمن لدمائهم ، وغياب أي رؤية وأفق لمستقبل هذه القضية بل وغياب القدرة على إيجاد دولة فلسطينية.
بالتأكيد الوضع الإنساني مأساوي في القطاع بعد حصار الجوع .. والرصاص لكن هذا لا يجعلنا نختزل كل أهدافنا في دخول المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار ما هدمته إسرائيل التي لا تدفع أي ثمن لما تسببت فيه ، ونترك الأسئلة الكبرى بلا إجابات وبلا رؤية لمستقبل لا زال غامضا وضبابيا والبحث عن دولة لم تقم وحركات تحرر وطني لم تعد بعد تمثل بحق حركات للتحرر وليس لكونها فقط تولت السلطة وإنما لما انتهجته من سياسة تعكس أنها أبعد ما تكون عن أهداف التحرر .
هل حماس وفتح وباقي الفصائل ينطبق عليهم بحق أنهم تحرر وطني؟ هل السلطة التي أتُهمت بالفساد وأبو مازن الذي خرج من التاريخ وصراعات الأجنحة في حركة فتح وصعود قادة يسعون لتحقيق نفوذ شخصي يجعلهم تحرر وطني؟ وتحولهم من حركة للتحرر لحركة سياسية تقود السلطة ألم يجعلهم أكثر تصالحا مع الوضع القائم ؟! وليس هذا فحسب بل جعلهم بمثابة الشرطي الإسرائيلي الذي يساعد الاحتلال على الحكم ، و الأفضح على الإطلاق بيزنس القيادات الكبرى مع إسرائيل مما أسقط أي ثقة شعبية في حركة كانت من المفترض أنها تلعب الدور الأقوى لمواجهة إسرائيل ، وحاولت أن تقدم حماس نفسها أنها البديل المقاوم الحقيقي فهل كانت بالفعل البديل المقاوم ؟
حماس التي نعتت نفسها بالمقاومة الإسلامية لكسب المشاعر دخلت لعبة السياسة وصراع السلطة وفازت بالانتخابات التشريعية في ٢٠٠٦ وتأجج الصراع على السلطة والسيادة في الأراضي الفلسطينية ، وبدلا من الإصطفاف أمام الإحتلال كان الإنقسام على تقسيم ما تبقى من إسرائيل كأمر يشبه الصراع على بقايا الموائد وبالفعل اندلعت اشتباكات عنيفة بين الطرفين في يونيو ٢٠٠٧ أسفرت عن سيطرة حماس على قطاع غزة بعد معارك ضارية وبقيت فتح تسيطر على الضفة الغربية بقيادة السلطة الفلسطينية .
وزادت القطيعة والتناحر الفلسطيني - الفلسطيني ، ومن البديهي أن يعرقل هذا مسيرة التحرر ويصب لصالح إسرائيل ففلسطين في أشد الاحتياج لقيادات يثقون في تحركاتهم ويحظون بشعبية ، ولا معنى من أستمرار أبو مازن الذي خرج من التاريخ ، وأصبحت فلسطين تبحث عن قيادة تحظى بالثقة وليس فصيل خلفه تنظيم لا يمثل جموع الشعب الفلسطيني بأي حال من الأحوال .
كل هذا يحدث وإسرائيل لم تتوان لحظة واحدة في تفريغ اتفاق "أوسلو" بالكامل من محتواه والتوسع في الاستيطان بشكل غير مسبوق وتحويل فلسطين لقطع من الجبن السويسرى وقطاعات أشبه بالسجون الكبيرة تحاصرها إسرائيل من كل جانب و تمارس يوميا سياسات عنصرية سواء في غزة أو الضفة وجعلوا فكرة حل الدولتين الذي ظللنا ننادي به ردحا من الزمان حلا شبه مستحيل.
و الآن هل من المعقول أن تختزل حماس الانتصار في تبادل رهائن وأسرى ؟! هل كل هذه الدماء الذكية من أجل ذلك فقط وأين قضية الأرض والبيت ؟ وأين قضية الدولة و أين حقوق من ضحوا وتهدمت بيوتهم ودفنت أجسادهم تحت جدران أحلامهم ، وتم اغتيالهم بقلوب باردة وبلا ضمائر وستظل هذه الحرب وصمة عار على جبين الإنسانية.
نتنياهو الذي أقبل على هذه الحرب الكبيرة على قطاع غزة كانت بمباركة أوروبا وأمريكا وصمت دولي والجميع يرى يوميا كيف يتعرض شعب للإبادة .. وفي لحظة أخرى الإرادة الدولية المتمثلة في أمريكا أرتأت أنه لابد من وقف إطلاق النار وعودة الرهائن فورا وإلا الويل والثبور وعظائم الأمور أو جحيم ترامب ووعيده "للشرق الأوسط" فتوقفت آلة القتل الجهنمية وحصد الأرواح ومن ثم يجب قبول الإتفاق والمقايضة على أسرى ورهائن .. نعم الثمن بخس للغاية .
لن أتحدث عن الأرقام المتداولة في الإعمار لكني في غاية الاندهاش من إتفاق الهدنة ومن يرون أنه إنتصار هناك قاعدة تعلمناها إذا أردت أن تعرف من الذي فرض إرادته إنظر إلى بنود أي اتفاق ستجد في "الهدنة "منطقة عازلة تستقطع من مساحة القطاع وتفرض مزيدا من الحصار المستقبلي وهذا يعني أن مساحة السجن ضاقت أكثر .
هذا لا يعني أنني أرفض الهدنة ولكن أرفض التفريط في الدماء التي سالت .. أرفض أن تفلت إسرائيل من العقاب كالعادة .. أرفض المبارزة الوهمية بين فريق يهتف بنصر لم يتحقق ..وفريق أخر يؤكد على هزيمة غير مكتملة .. ونسوا وتناسوا أن الكل خاسر وأن الأدوار محددة مسبقا في الوساطة والمساعدات الإنسانية دون أن يكون هناك أفق سياسي واضح لقضية شعب مهدد الوجود بشكل مستمر بسبب غطرسة القوة ، شعب محروم من الأمان والدولة شعب يتعرض للإبادة المستمرة وللمقامرة السياسية على حياته ويدفع دمائه ثمنا بخسا لرهائن وأسرى وتظل الدولة حلما بعيد المنال وكأنه تم اختزال التحرر الوطني في هذا الملف فقط وأغلق ملف الدولة وملف حق العودة الذي أصبح من ذكريات الماضي ، ولا حديث يذكر حول المستوطنات المتمددة .
والآن وبعد عودة ترامب للبيت الأبيض واختياره لفريق - وهو على رأسهم - انحيازهم بالكامل لإسرائيل و بلا حدود يبدو أن المستقبل القريب قاتما وسيكون بين "لا حرب ولا سلم" وسنشهد مقاومة وقمع على مستوى منخفض ، ومواجهات مع المستوطنات الإسرائيلية ، وإغاثة إنسانية ضئيلة رغم ما نراه من شاحنات ، وواقع بدولة واحدة شبيه للفصل العنصري .
ترامب الذي يعود ومعه مشروع لم يكتمل في ولايته الأولى هل تتجدد مشروعاته على دماء من رحلوا بسبب سيكون بمثابة قمار على موائد الدم .
ومن أجل أن يتاح فرصة للكفاح من أجل مستقبل أفضل يتعين على الفلسطينيين بناء مؤسساتهم بشكل جديد ، وإصلاح الحكم ، وقيادات تقف على أرضية وطن تم طرد شعبه وأستبدله الاستعمار بشعب آخر و إلا سيستمر التآكل في القضية.