كتب :محمد أبوزيد
في قلب منظومة العدالة المصرية، تتعالى صيحات الاستغاثة من المواطنين بسبب ممارسات مريبة تمس نزاهة تقارير الطب الشرعي، أحد أهم أعمدة كشف الحقائق وتحقيق العدالة.
و برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة جديدة، متمثلة في افتتاح أطباء شرعيين مكاتب خاصة، أبرزها في مدينة السادس من أكتوبر، حيث تُقدم خدمات استشارية بأسعار باهظة، وتحولت تلك المكاتب إلى سوق سوداء لتقارير يُفترض أن تكون حصنًا منيعًا ضد التلاعب.
الطب الشرعي الخاص..تجارة على حساب العدالة
بدلًا من تقديم الخدمات بشكل قانوني ومجاني، باتت بعض مكاتب الطب الشرعي الخاصة تعمل كوسيط بين المتقاضين والعدالة، مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 50 ألف إلى 200 ألف جنيه. يقدم أصحاب هذه المكاتب خدمات متعددة، منها إعداد تقارير طبية تُستخدم للتأثير على مسار القضايا، أو تسريع صدور تقارير رسمية من الجهات الحكومية المختصة.
الأمر الأخطر هو تورط أطباء شرعيين حاليين وسابقين في هذه الأنشطة، حيث يعملون كـ"سماسرة" في تسهيل الحصول على تقارير موجهة، قد تؤدي إلى إدانة الأبرياء أو تبرئة الجناة، وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل العدالة في ظل وجود مثل هذه الممارسات.
مكاتب الطب الشرعي في الخارج: بين التنظيم والفوضى
على النقيض من هذه الفوضى، تخضع خدمات الطب الشرعي في أوروبا وأمريكا لرقابة صارمة. في تلك الدول، تُقدم الاستشارات الشرعية عبر مؤسسات حكومية أو خاصة مرخصة تخضع لإشراف قضائي، وتتمتع بالشفافية والمصداقية، مع وجود قوانين تُجرّم أي تلاعب أو تأثير على سير العدالة.
في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تخضع جميع تقارير الطب الشرعي لمراجعة مزدوجة من قِبل لجنة مستقلة. وفي بريطانيا، يُعد أي تورط في تزوير التقارير أو التأثير على التحقيقات جريمة كبرى تُعاقب بالسجن لسنوات طويلة.
تأثير الطب الشرعي الخاص على العدالة في مصر
إن انتشار هذه المكاتب في مصر يهدد بتقويض منظومة العدالة برمتها. فمن ناحية، تتعرض القضايا الحساسة، مثل جرائم القتل والاعتداءات، لخطر التلاعب، حيث يمكن أن تؤدي تقارير غير دقيقة أو موجهة إلى إدانة أبرياء أو إفلات الجناة من العقاب.
من ناحية أخرى، تتسبب هذه الممارسات في إطالة أمد القضايا، مما يؤدي إلى استنزاف موارد الضحايا وأسرهم، الذين يجدون أنفسهم مضطرين لدفع مبالغ طائلة للحصول على تقارير قد لا تُنصفهم في نهاية المطاف.
مخاطر الظاهرة على المجتمع
1. تقويض الثقة في منظومة العدالة: عندما يفقد المواطنون الثقة في حيادية التقارير الشرعية، يتولد شعور عام بالإحباط والظلم.
2. زيادة الفساد الإداري والقضائي: تتحول منظومة الطب الشرعي إلى أداة في أيدي المتلاعبين، مما يؤدي إلى انتشار الفساد في أروقة القضاء.
3. تعميق الفجوة بين المواطنين والدولة: يُنظر إلى هذه الظاهرة كدليل على غياب الرقابة وضعف المحاسبة، مما يزيد من شعور المواطنين بالتهميش.
تعد ظاهرة مكاتب الطب الشرعي الخاصة تهديدًا خطيرًا لسير العدالة في مصر، حيث تتحول قضايا العدالة إلى تجارة مربحة على حساب حقوق الضحايا. إن القضاء على هذه الظاهرة يتطلب إرادة سياسية قوية وإصلاحات تشريعية جذرية، لضمان عودة الثقة إلى النظام القضائي وحماية حقوق المواطنين. فالعدالة لا تُباع، ويجب أن تبقى فوق كل اعتبار.