روبرت دريفوس في كتابه "لعبة الشيطان" بحث في كيف ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية على إطلاق العنان للأصولية الإسلامية ، وكيف تباينت الأغراض من هذا الاستخدام من مرحلة لأخرى .
وأستعرض في ستينات القرن الماضي كيف أعدت الولايات المتحدة مع السعودية لتوظيف الأصولية الوهابية لخدمة سياستها الخارجية وقيام كتلة إسلامية تمتد من شمال إفريقيا حتى باكستان وأفغانستان ، وأقامت السعودية المؤسسات لتوظيف العقيدة الوهابية السعودية والإخوان المسلمين لذلك الغرض مثل المركز الإسلامي في جنيف ١٩٦١ ، ورابطة العالم الإسلامي ١٩٦٣، والمؤتمر الإسلامي ١٩٦٩ ولم يكن الهدف السوفيت فقط بل حركات التحرر الوطني من "مصدق" - "لناصر" .
إذن لم يكن جديدا أن تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الاستراتيجيات ، بل الحرب الأفغانية كانت خير شاهدا على مدى التعاون الكبير مع الأصولية الإسلامية في الفخ الأفغاني المنصوب للاتحاد السوفيتي ، وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتدريب "المجاهدين" الأفغان والعرب الذين خرجوا من كل الدول الإسلامية وعلى رأسها مصر ، والذين قد تمددوا بفضل موجة المهادنة والاستخدام ليضرب "السادات" خصومه من الناصريين واليسار .
"لعبة الشيطان" أتقنتها بريطانيا الاستعمارية - وظهر ذلك جليا في صناعة جماعة الإخوان المسلمين في ١٩٢٨ - وورثت أمريكا اللعبة بنفس الحرفية .. هذه الصناعة لا تعني أن هناك حالة حب بل هو نوع من الشراكة للقضاء على عدو مشترك ، ومن ثم فإن تصويب تنظيم "القاعدة" سهامه لأمريكا بعد الحرب الأفغانية ليس غريبا بعد انتهاء الأهداف الخطر الشيوعي ، فالعلاقة دخلت في أطوار مختلفة من المهادنة للتعاون والصدام ، في الوقت ذاته برجماتية أمريكا لم تمنعها في فترات الصراع أن ترعى أصولية شمولية مثل جماعة الإخوان وتكون مكاتبهم ليست في أمريكا فقط بل في عواصم أوروبية فإذا سقط الاتحاد السوفيتي فهي تظل ورقة تلعب بها أمام التنظيمات الأخرى بل والنظم الحاكمة في الأساس .
وهذا في تصوري البسيط ما جعل "ترامب" معجبا باللعبة ولم يخرج عن قواعدها فتركيا وتمددها يساعد على استكمال عملية بتر الأذرع الإيرانية في المناطق التي ترغب الولايات المتحدة إنهاء الوجود الإيراني ، وهنا يشترك كلا من أمريكا و تركيا وإسرائيل فيما يحدث في المنطقة إسرائيل تضرب بمنتهى العنف "حزب الله" و"حماس" ، وتوجه ضربات مفصلية ، و يأتي دور تركيا في تجديد اللعبة القديمة "لعبة الشيطان" المستمرة وتقدم صناعتها ومفهومها الهجين بين الإسلام والعلمانية وتقدم طبختها في" الجولاني " المعدل بعد إنفصاله عن داعش ومعاونته بشكل كامل تمويلا وفكرا ، وتقدمه في ثوبٍ جديد بعيدا عن الشخص الذي خصصت أمريكا مكافأة لمن يدل عليه لأنه إرهابيا هارب بل أصبح مشروعا لحاكم تم إعداده بعناية فائقة عبر عدة سنوات تحت رعاية تركية فهو لم يكن نبتا شيطانيا ولم يظهر في غفلة من الزمان.
مرة أخرى الشراكة لا تعني عدم وجود تضارب ومصالح متناقضة لأن الفيصل هو كيف يتم إدارة هذه المتناقضات ، فتركيا تحاول إستخدم جميع الفرقاء في فرق وميليشيات الإسلام السياسي من الإخوان وغيرها لتطويعها ومساومة بعضها ببعض وعينها على منع الأكراد أن يحققوا أهدافهم في إقامة دولة ، وكذلك منع الـ تمدد الإيراني ، والولايات المتحدة تحاول أن تكسب الفرصة لصالحها في القضاء على نفوذ إيران وأن تنجح إسرائيل وتتمدد بخريطتها في المنطقة ، وهنا يحاول "الجولاني "الاستفادة من كل هذا ، والسؤال : هل يستطيع أن يفوز من خلال هذه الأهداف المشتركة للفاعلين أم سيكون الغدر به مصيره في لحظة تحقيق الأهداف المرجوة عند الأطراف الفاعلة .
أما "الأكراد" لم يكونوا في أي لحظة تاريخية سوى ورقة مساومة لكبح جماح الدور التركي ووضعه عند محددات لا يتخطها ويتجاوز دور أمريكا العظمى ، والتاريخ خير شاهد في التخلي عن الأكراد في الأوقات الحرجة ويتم تركها لتسقط من على حافة الهاوية.
كل هذا يحدث في إقليم لم يعد له وجود ، ومن المفترض أن يكون اسم مادة النظام الإقليم العربي التي يتدارسها طلبة سياسة تكون كيف إنهار هذا النظام ؟ ولصالح من ؟ وأن الدور التركي والإيراني لا يختلفان في تحقيق السطوة والنفوذ وأن تركيا تحاول التمدد كما تفعل الأن مثل ما حاولت إيران قبل ضرب أذرعها ولا تقل خطورة في فرض نموذجها ، وإسرائيل التي تتمدد هي الأخرى في فراغ لا يملئه سوى الفوضى والاستبداد والجهل والإرهاب والفقر .
والسؤال : هل لعبة الشيطان ستنجح في أن تعود سوريا الدولة ؟ ودولة بمواصفات ديمقراطية مدنية هل سيتفق الفرقاء رغم اختلافاتهم المذهبية ؟ هل إجراءات عودة الدولة ستسير بسلاسة؟ إن الاندفاع في الإجابة يعد بمثابة تهور لا يقل عن محاولة الانتحار و القفز من الأدوار المرتفعة ولا حل سوى تأمل المشهد وتأمل تحركات الجولاني - الورقة الجديدة في لعبة الشيطان وليس حواراته فقط - هي ما ستهدينا إلى ما نحاول الوصول إليه وإن كان الأمر سيكون صعبا للغاية في إعادة الدولة التي أصبحت ممزقة بين شتات الفرق والجماعات والسلاح المتغلغل والمطامح والمطامع وخرائط إسرائيل الجديدة التي يشهرها نتنياهو في وجوهنا كما لو كان أصبح مالكا للمنطقة.