في تصريح هو الأول من نوعه، أثار قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع المعروف بـ"أبو محمد الجولاني"، جدلًا واسعًا بعد أن أعلن خلال مقابلة مع تلفزيون سوريا أنه "ليس بصدد الدخول في مواجهة أو صراع مع إسرائيل". هذا التصريح الذي حمل الكثير من الإشارات والدلالات يُعيد تسليط الضوء على التحولات الفكرية والسياسية التي مرّ بها الجولاني منذ انشقاقه عن تنظيم القاعدة وحتى اليوم، وكذلك يسلط الضوء عاي العلاقات بين المعارضة السورية المسلحة وإسرائيل.
الجولاني من "القاعدة" إلى البراغماتية
لطالما قُدّم الجولاني كإحدى الشخصيات ذات الخلفية الإسلامية والجهادية التي تربّت في مدرسة تنظيم القاعدة، لكنه في السنوات الأخيرة بدأ ينتهج سياسة جديدة تتماشى مع البراغماتية السياسية، مقتربًا بشكل متزايد من النموذج الذي يُجسده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
منذ بداية الثورة السورية، كان أردوغان هو مهندس دعم المعارضة المسلحة، لكنه لعب دورًا مزدوجًا بين دعم الفصائل وإعادة هندسة خارطة الصراع بما يخدم مصالح تركيا الاستراتيجية. واليوم، يبدو أن الجولاني يسير على نفس النهج، محاولًا إعادة تقديم نفسه كلاعب سياسي قابل للتفاوض مع القوى الإقليمية والدولية، حتى ولو على حساب المبادئ التي كان يتبناها سابقًا.
تصريح يكشف المستور
تصريح الجولاني عن عدم الدخول في صراع مع إسرائيل ليس مجرد إعلان عابر؛ بل هو إشارة إلى طبيعة العلاقة الخفية بين هيئة تحرير الشام وإسرائيل، التي ظلت لسنوات تشهد حالة غير مفهومة من الهدوء رغم كل ما فعلته إسرائيل في سوريا وفلسطين.
ومن اللافت للنظر أن هيئة تحرير الشام لم تُطلق أي بيان أو موقف ضد إسرائيل، لا خلال حرب الإبادة الجماعية على غزة، ولا بعد استهداف إسرائيل لمواقع الجيش السوري وتدمير بنيته التحتية. وبينما دمرت إسرائيل معظم أسلحة الجيش السوري بعد هروب بشار الأسد، لم تُطلق الهيئة حتى رصاصة واحدة تجاه الاحتلال، مما يفتح باب التساؤلات حول وجود اتفاقات أو تفاهمات خفية.
صفقات سرية برعاية تركية وأمريكية
يُرجّح أن تصريحات الجولاني تكشف جانبًا من الصفقات السرية التي تمت بين المعارضة السورية المسلحة وإسرائيل برعاية تركية وأمريكية، بهدف تسهيل سقوط النظام السوري دون تهديد إسرائيل. هذا التحليل يتماشى مع تصريحات الجولاني الأخيرة التي تحدث فيها عن التواصل مع سفارات غربية، ومنها بريطانيا، لإعادة تمثيلها في دمشق، مما يوحي بتوجه نحو التطبيع مع القوى الدولية والإقليمية، بمن فيهم إسرائيل.
يريد الجولاني تقديم نفسه كزعيم قادر على قيادة سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، متعهدًا "بعلاج التدمير الذي مارسه النظام". لكن هذا
أبعاد أخرى للتصريح القاتل
1. مشروع سياسي بديل
المشروع لا يمكن فصله عن المظلة الدولية التي تسعى لإعادة ترتيب المنطقة بما يخدم مصالحها، حتى لو كان ذلك يعني القفز فوق الشعارات القديمة للثورة.
2. دور إسرائيل في المشهد السوري
تاريخيًا، استفادت إسرائيل من الصراع السوري لإضعاف الجيش السوري وتدمير بنيته التحتية. واليوم، يبدو أن الفصائل المسلحة، بما في ذلك هيئة تحرير الشام، أصبحت جزءًا من لعبة سياسية أوسع تُدار برعاية دولية، حيث يتم تجاوز أي مواجهة مع إسرائيل.
3. انعكاسات التصريح على المعارضة السورية
هذا التصريح قد يُضعف مصداقية المعارضة المسلحة أمام الشارع العربي والإسلامي، خاصة أنه يأتي في وقت تتصاعد فيه الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، مما يجعل موقف الجولاني وكأنه خضوع للإملاءات الدولية.
الجولاني أردوغان وإسرائيل .. شراكة غير معلنة
إذا كان الجولاني يمثل المعارضة المسلحة، فإن أردوغان هو عرّاب هذه الفصائل ومهندس سياساتها. منذ بداية الأزمة، كان الدور التركي هو الأبرز في تمكين هذه الفصائل، وتوجيهها بما يخدم المصالح التركية. واليوم، يبدو أن الجولاني يسير على خطى أردوغان في البراغماتية السياسية، متجاهلًا الأبعاد الأخلاقية للصراع مع إسرائيل.
تصريحات الجولاني، إذن، لا تُقرأ بمعزل عن الدور التركي، الذي لطالما سعى لضمان مصالحه الإقليمية على حساب القضية السورية، حتى لو كان ذلك يعني التفاهم مع إسرائيل أو القوى الغربية.
-
مستقبل هيئة تحرير الشام
تصريح الجولاني قد يكون جزءًا من محاولة لتهيئة الهيئة للعب دور سياسي أكبر في سوريا المستقبلية، لكن هذا التحول قد يُعمّق الفجوة بينها وبين باقي فصائل المعارضة، خاصة تلك التي ترى في إسرائيل عدوًا استراتيجيًا.
في النهاية، يبدو أن الجولاني قد كشف المستور، واضعًا هيئة تحرير الشام في دائرة التساؤلات حول دورها الحقيقي في المشهد السوري، وعلاقتها بالقوى الدولية والإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل.